الكاتب عاطف حسانين

عاطف حسانين : قصة قصيرة للوجع

إننا نقتل كلَ شيء حولنا فيموت كلُ شيء فينا، فأي دولة سوف نقيم عليها الخلافة؟ وأي بشر سينعمون بها ونحن نسوقهم ونذبحهم كالخراف؟ أو نحرقهم بلا رحمة؟

كانت تلك كلماتي التي تفوّهت بها لأخ في التنظيم، قبل أن يقتادوني إلى هذه الحفرة، لأمكث فيها أياما قبل إعدامي حرقا لأنني -كما يزعمون- كفرت بفريضتهم الغائبة “الجهاد”!
لم يعد ثمة مشكلة لديّ؛ فقد تعلّمت هنا أن الموت والحياة يتشابهان، لمن ليس لهم قلوبٌ يعقلون بها؛ والموتُ لمثلي هو رصاصة الرحمة التي يسبقها العذاب ويلحقها العذاب.

لا أدّعي أنني سأفسر لكم تجربتي، لكن ثمّة أسئلة أتركها لكم ربما تدركون من خلالها بعض أسباب ما نعيشه من مأساة.

لقد صدق الله معنا وهو يروي القَصَص ويحكي لنا التاريخ
لم يُخف عنّا أن موسى قتلَ نفسا
وأن إبراهيم طلبَ أن يُريَه اللهُ كيف يحيي الموتى ليطمئن قلبه
وأن يونس خرج ظالما لنفسه فالتقمه الحوتُ
وأن امرأة نوح وامرأة لوط خانتاهما
وأن يوسف أغرته امرأة العزيز وهَمّ بها لولا أن رأى برهانَ ربّه
هل كان من الأنفع لنا أن يستر الله عنّا ما قدّره على أنبيائه لنظل نحن البشر نتطلعُ إليهم باعتبارهم صدقوا فلم يُخطئوا وكانوا بشرا كالملائكة؟!
إن كان الله قد شرح لنا
فلماذا أخفينا التاريخ، وظنّنا أن إخفاءه يرفع قدرَ الإسلام؟
وما شأن تاريخ الإسلام كدين أكمله الله، وتاريخ المسلمين؟
لماذا أخبرونا أن دولة الخلافة هي أعظم موروث ديني وحضاري عرفته البشرية، فجعلونا نحلم حلما زائفا، وتركونا نهبا لمتطرفي الفكر سقمي الوجدان؟

رأسي يدور، وعقلي يتفتت، لكنني وأنا أتجرع مرارة آلام الذين قتلتهم بيدي، أقول لمن أخفوا عنا الحقائق، وحرّموا علينا الفكر والنقاش، ليتكم شرحتم لنا التاريخ، وما دار من صراع في شؤون الملك حتى بين الصحابة والتابعين، ربما لم نكرر أخطاءهم كما فعلنا ويفعل غيرنا.

فأنا ذلك الشاب “الثائر” في 25 يناير ضد الظلم والفساد أكاد أجزم اليوم أن تلك الثورة المجيدة كان أحد أهم أسباب فشلها أننا لم نفهم اللحظة التاريخية التي رفع فيها جند معاوية قميص عثمان مطالبين بالثأر لدمه، ودخلت الأمة بعدها في صراعات دموية لم تنته
فرفعتُ مع من رفعوا قميص الشهداء، وطلبنا الثأر لا العدل
كررنا أخطاء الماضي السحيق
تنازعنا ففشلنا
وبدلا من أن نقدم الثورة قربانا للوطن قدمنا الوطن قربانا للثورة
ربما لأننا لم ندرك من حكمة التاريخ أن الثورة التي تتخذ من الغل والثأر وقودا لها تحرق صانعيها، وتترك أوطانها نهبا لسارقي الثورات، وباعي الحلم النبيل..
وأنا “المجاهد” الذي خرج مغاضبا؛ فالتقمه حوتُ التطرف والغلو في تنظيم كنت أظنه مجاهدا وأراه اليوم إرهابيا بغيضا، أقبع بين مجموعة من المرتزقة، والضائعين، واليائسين، شاهدا على أن بعض الذين يريدون اليوم تحطيم الجغرافيا باسم الإسلام هم ضحايا تزييف التاريخ ممن ظنوا بالأمس أنهم يخدمون الإسلام.

فأنقذوا أجيالا قادمة، وغيروا كُتبَكم قبل أن تغيروا خُطبَكم
حصنوا أوطانكم بالعدل
وشبابكم بالفكر المستنير
“فالفكر” هو الفريضة الغائبة في هذا الزمان
استمعوا لهم قبل أن تسمعوا صوت الرصاص من أسلحة أهداها لهم أعداؤكم ليقتلوكم.

أما أنا فأستحيي أن أطلب من الله الرحمة وقد بخلتُ بها على كل من توسّل بالله إليّ ألا أقتله، لكنّ عزائي وأنا أغادر هذا العالم، أني قد أدركتُ معنى الحياة قبل أن تسبق إليّ يدُ الموت، وأن قلبي قد أبصر ومضًا من ضياء الفجر والعمرُ على مشارف وقت الغروب.

المصدر : صحيفة الشروق المصرية
Shares