كتبه : عزة كامل المقهور
محامية
مقدمة:
في ليبيا، بعد أن انتهى نظام سياسي استمر لمدة تتجاوز الواحد والأربعون عاما، معتقدا أنه تجذر في البلاد، هوى كغيره من أنظمة الدول المجاورة لكنه كان أشد إيلاماً وأشد وقعاً، كانت البلاد في حالة من الوهن المؤسساتي وبدون دستور ينظم حالات الضرورة والحرب والسلم والكوارث، فكانت الفوضى والحروب والإقتتال والصراع الحاد على السلطة والثروات.
وبسبب هذا الوضع المعقد لبلد لا يتجاوز عدد سكانه السبعة ملايين نسمة ويزخر بالثروات كانت الإنطلاقة بعيد الثورة مغرقة في التفاؤل وغير واقعية. ومنذ تلك الخطوات الدستورية والتشريعية غير المدروسة كانت النتائج الوخيمة التي أوصلت هذا البلد الصغير إلى حافة الانهيار.
الخطة الوطنية: صدور الإعلان الدستوري من المجلس الوطني الانتقالي بتاريخ 3. 8. 2011
جاءت الخطة الوطنية للفترة الانتقالية الليبية مغرقة بالتفاؤل وبطريقة حسابية تنم عن عدم خبرة ولا أدنى تجربة ، والملخصة في المادة 30 من الإعلان الدستوري. كانت البلاد ما تزال منهكة تفوح من جنباتها رائحة الدخان والموت، لكن كانت الرغبة في البناء كبيرة. أما السلام والمصالحة الوطنية فلم يكونا من ضمن الأولويات، والدليل على ذلك خلو الإعلان الدستوري بالكامل من مصطلحات بديهية في حالة ليبيا التي تعرضت لصراعات مسلحة داخلية ما بين فرقاء بل وحتى مدن، مما ينم عن عدم الالمام او استيعاب حقيقة مهمة وهي أن ليبيا دخلت في حالة حرب أهلية تستدعي عملية مصالحة وطنية وحوار مجتمعي حقيقي.
لذا كانت الخطة الوطنية خالية من استيعاب الواقع وأبعاده بالكامل وقاصرة، بل يمكن القول أنها خالية من المهنية والالمام بالواقع و تقدير للظروف المحيطة.
جاءت الخطة الوطنية استنادا للإعلان الدستوري كما يلي:
- انتخابات (المؤتمر الوطني العام)
- تشكيل الهيئة التأسيسية لوضع مشروع الدستور (كانت بالإختيار من المؤتمر الوطني العام ثم أصبحت بالانتخاب)
- انتخابات للسلطة التشريعية تأسيسا على الدستور المعد من الهيئة التأسيسية بعد الاستفتاء عليه.
الخطة الدولية لليبيا: قرار مجلس الأمن رقم 2009 الصادر بتاريخ 16. 9. 2011:
أما الخطة الدولية لليبيا، فكانت الخطة أو الوصفة المعتمدة عادة للدول التي تعاني من صراعات مسلحة، وهي الخطة التي نص عليها قرار مجلس الأمن رقم 2009 الذي ذكر فيه أن ” الأمم المتحدة تتولى قيادة المجتمع الدولي دعما لعملية الانتقال وإعادة البناء…” والأهم أن هذا القرار أسس واعتمد بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا وبيّن اختصاصاتها.
ورد في هذا القرار ما يلي:
“5/ جـ ضمان وجود عملية سياسية تشاورية شاملة بهدف التوصل إلى اتفاق بشأن وضع دستور وإجراء انتخابات حرة ونزيهة”
“ولاية الامم المتحدة: يقرر انشاء بعثة للأمم المتحدة للدعم في ليبيا تحت قيادة الممثل الخاص للأمين العام .. أن تكون مهمة البعثة مساعدة ودعم الجهود الرامية إلى ما يلي:
(أ)
(ب) إجراء حوار سياسي يضم الجميع، وتعزيز المصالحة الوطنية، والشروع في عملية وضع الدستور والعملية الانتخابية”
لذا يمكن تلخيص الخطة الدولية كما يلي:
- حوار وطني جامع.
- مصالحة وطنية شاملة.
- وضع دستور للبلاد.
- إجراء انتخابات بناء على الدستور.
وهكذا جاءت الخطة الدولية لليبيا مستندة على الخطوات المتعين اتخاذها في البلدان التي تتعرض لحالة الصراعات المسلحة الداخلية، لكن الغريب في الأمر أن هذه الخطة التي صدرت ضمن قرار دولي يستند إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، صدرت بعد شهر من صدور الإعلان الدستوري، أي أن واضعي هذه الخطة الدولية إما أنهم لم يكونوا على دراية بصدور الخطة الوطنية (الإعلان الدستوري)، أو أنهم تعمدوا تجاهل هذه الخطة الوطنية، علما بأن السبب قد يكون نتيجة تقاعس المجلس الوطني الإنتقالي في نشر الإعلان الدستوري في الجريدة الرسمية.
الملاحظ أنه طوال الفترة الانتقالية وما افضت اليه من أزمات دستورية وتشريعية، لم يكن هناك عمل جدي للتقارب ما بين الخطتين الوطنية والدولية، فكانت الغلبة للخطة الوطنية حتى ديسمبر 2015، حين تم التوقيع على اتفاق الصخيرات.
ومنذ ابرام اتفاق الصخيرات بدأت الغلبة للمسار الدولي، والتقليل من أهمية المسار الوطني الذي بدأ يزاح عن الطريق ويحل محله المسار الدولي، وهكذا دخلت ليبيا في أزمة شرعية حقيقية، لتتجاوز المؤسسات مددها الزمنية (الهيئة التأسيسية/ مجلس النواب)، وتعمل بعضها بقوة الأمر الواقع دون سند قانوني وطني متعللة بقرارات مجلس الأمن (المجلس الرئاسي/ حكومة الوفاق الوطني/ مجلس الدولة)، بل ويملك بعضها خزائن الدولة ويتحكم في سياستها النقدية رغم قرار بإنهاء الوظيفة ( محافظ مصرف ليبيا المركزي) وأخرى تتولى إدارة مؤسسات سيادية دون سند من القانون.
لتصبح أزمة “الشرعية” أزمة خانقة، أدت إلى دخول البلاد في نفق مظلم وانقسام حاد في مؤسساتها واداراتها، واضعفتها، وافرزت عن ازمات معيشية للمواطن الليبي احالت حياته إلى جحيم.
عملية صناعة الدستور في ليبيا:
طرأ على عملية صناعة الدستور عدة تعديلات جوهرية، أهمها على الإطلاق – وبموجب التعديل الثالث للإعلان الدستوري- تحول الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور من هيئة معينة إلى هيئة منتخبة ، ومن هيئة تهيمن عليها السلطة التشريعية إلى هيئة مستقلة تتوازى مع الهيئة التشريعية لأنها هيئة منتخبة. ومنذ البداية كانت السمة غير الواقعية جلية من خلال نص المادة 30 وبنودها ذات العلاقة بالمسار الدستوري خاصة فيما يتعلق بالمدد القصيرة التي “اعتقد” واضعو المادة 30 انها صناعة تشبه العملية الحسابية وليست عملية مصالحة وطنية شاقة في بلد تنازعته وستنازعه حروب متكررة.
لكن الأنكى من ذلك أن عملية صناعة الدستور وفقا للمادة 30 من الإعلان الدستوري هي في حقيقتها تعمل بها أكثر من جهة وليس جهة واحدة ، إضافة إلى تعدد مراحلها وتشعبها.
- إنتخاب المؤتمر الوطني العام (2012)
- اصدار قانون انتخاب الهيئة التأسيسية ( 2013)
- إشراف المفوضية العليا للانتخابات على العملية الانتخابية (2014)
- مباشرة الهيئة التأسيسية لمرحلة صياغة مشروع الدستور (2014- 2017)
- إحالة المشروع إلى الهيئة التشريعية.
- إصدار الهيئة التشريعية لقانون الاستفتاء.
- إشراف المفوضية العليا للانتخابات على عملية الاستفتاء.
- حالتا “نعم” أو “لا” من أفراد الشعب وفقا للإعلان الدستوري وقانون الاستفتاء.
- في حالة التصويت “بنعم” تصادق عليه الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور وتحيله إلى الهيئة التشريعية لإصداره.
- حالة التصويت “بلا” إعادة المشروع إلى الهيئة التأسيسية للمراجعة والإعادة مجددا للإستفتاء.
- إصدار الهيئة التشريعية للدستور بموجب تشريع ونشره في الجريدة الرسمية.
- اختصاص الدائرة الدستورية في المحكمة العليا للنظر في أية طعون تتعلق بالعملية الدستورية.
(2) أما بعد عام 2014، وتحديدا في عام 2015، فقد حاول المسار الدولي أن يتدخل في العملية الدستورية من خلال نصوص في الفصل المتعلق بالعملية الدستورية في الاتفاق السياسي (المواد 47-52 )، ووضع تاريخا محددا كسقف للهيئة التأسيسية لتقديم مشروعها (24/ 3/ 2016) وهو ما لم تنفذه الهيئة، كما وضع بدائل عن المسار المنصوص عليه في الإعلان الدستوري بإشارك كل من مجلس النواب ومجلس الدولة وبحضور المجلس الرئاسي للنظر في المسار الدستوري وهي نصوص لم تجد طريقها للتطبيق بل تجاوزتها الأحداث والزمن.
ضف إلى ذلك أن خطة العمل من أجل ليبيا التي تقدم بها السيد غسان سلامة أمام مجلس الأمن في سبتمبر 2017، تطرقت أيضا إلى المسار الدستوري في المرحلة الثالثة من الخطة ثلاثية المراحل.
والملاحظ أنه إذا كانت المرحلة الأولى من خطة السيد سلامة لا تتعلق بالمسار الدستوري، إلا أن المرحلة الثانية (المؤتمر الوطني “الجامع”) تقع في صلب الصناعة الدستورية. فهي مرحلة سيتم فيها نقاش مسائل يفترض أنها في صلب الدستور الليبي : توزيع السلطات و الموارد/ اللامركزية/ الأمن والدفاع/ المصالحة الوطنية/ العملية الدستورية والانتخابية….الخ (يراجع بالخصوص تقرير منظمة الحوار الانساني بالمسار التشاوري للملتقى الوطني الليبي المؤرخ في نوفمبر 2018).
وجاء في تقرير منظمة الحوار الانساني المشار اليه فيما يتعلق بالمسار الدستوري ” ورغم تعدد وجهات النظر حول العملية الدستورية، فقد اجتمعت الآراء على ضرورة التوصل إلى أساس دستوري يعبر عن كل الليبيين..”، وإلى أن هناك تعدد في الآراء حول الأساس الدستوري المأمول “وإن كان يجب الإتفاق على نص دستوري مكتمل البناء قبل الانتخابات، أم أن هذا الأساس الدستوري يمكن أن يقتصر على القيم الكبرى التي تجمع الليبيين”. كما وأن هذا التقرير قد أثار سؤالين هما: هل يجب الاتفاق على نص دستوري مكتمل البناء قبل الانتخابات؟ وأي أساس دستوري لإجراء الانتخابات؟
لذا فإن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو ما موقع مشروع الدستور بل والمسار الدستوري بالكامل في إطار المؤتمر الوطني “الجامع”، وهل من المتوقع أن يتجاوز المسار الدولي المسار الوطني في العملية الدستورية برمتها؟
نرى في ضوء تقرير مركز الحوار الإنساني المشار إليه أن المرحلة الثانية (المؤتمر الوطني “الجامع”) هذه قد تؤثر مباشرة في العملية الدستورية، وقد تأخذها إلى منحى آخر .
ولا تفوتنا الإشارة إلى وجود مسارات أخرى متعددة ستؤثر في العملية الدستورية بما في ذلك مشروع الدستور بل قد تتجاوز هذا المشروع ذاته، ولعل أهمها مفاوضات القاهرة حول الجيش الليبي الذي عززه بيان مؤتمر بالريمو، وما قد تسفر عنه من اتفاق بالخصوص. ففي حين ورد في مسودة الدستور مادتان حول الجيش، فإن التفاوض الذي يجري حاليا في القاهرة خاصة المتعلق بعلاقة الجيش بالسلطة المدنية لابد وأن يؤثر في النصوص ذات العلاقة في مشروع الدستور.
(3) لذا فإنه من المهم القول بأن مشروع الدستور المحال لمجلس النواب في عام 2017 هو خطوة – رغم اهميتها- ضمن خطوات صناعة الدستور في ليبيا وهي ليست صناعة الدستور في حد ذاته، أي أن هناك خطوات سبقتها وخطوات تلحقها -وهي عديدة- وأن مسودة الدستور ليست هي صناعة الدستور التي حسب المسار الوطني أو حتى الدولي تحتاج إلى خطوات أخرى لكي تكتمل.
فلا يجوز التقليل من أهمية تشريع الاستفتاء ولا من الإجراءات التي تسبقه وتلحقه، ولأن العملية الدستورية معقدة ولم يتحقق منها سوى خطوات محددة وأهمها مشروع الدستور، إلا أن خطوات لاحقة لم تكتمل بعد ولن يتحقق للمشروع أن يكون دستورا إلا بإكتمالها.
وعليه، فإن بناء قرارات على “مشروع” الدستور خاصة فيما يتعلق بالمرحلة الانتقالية المقبلة يكون اتجاه خاطئ موغل في عدم الواقعية والحلم، وإن علينا أن نتوخى الدقة في الإجراءات و تقبل العملية الدستورية المعقدة ليس من حيث الواقع فحسب بل من الناحية الإجرائية في بناء العملية الدستورية وصناعتها التي تتداخل فيها أكثر من جهة وطنية بل وحتى دولية. وأخذا لكل هذا بعين الإعتبار خاصة ما سبق من تبسيط لعملية التحول الديمقراطي في الفترة الانتقالية الذي أدى إلى أزمات متعددة، يتعين معه على أصحاب القرار والبعثة الأممية اعتماد الواقعية في التعامل مع هذه المسائل الحساسة وعدم تبسيطها بحيث تصبح معول للهدم وليس معول للبناء.
إن صناعة الدستور يجب أن تكون في إطار عملية مصالحة وطنية شاملة، وأن تكون دواءا ناجعا ليس للشفاء ولكن للتداوي، فليس المطلوب من العملية الدستورية أن تفضي إلى عملية مصالحة وطنية شاملة ولكن أن تنقل المسار الديمقراطي من مرحلة معقدة إلى مرحلة أقل وأكثر بساطة ووضوحا تدفع لعملية المصالحة الوطنية وتيسرها، لا أن تصبح عملية معقدة تربك الوضع القائم وتزيد من تأزيمه.
لذا فإن الهيئة التأسيسية لوضع مشروع الدستور ليست الجهة الحصرية لعملية الصناعة الدستورية، لكنها الجهة الحصرية لوضع مشروع “مسودة” الدستور واعتماده لاحقا. أما عملية الصناعة الدستورية وفقا للمسار الوطني الليبي المبين في الإعلان الدستوري هي عملية معقدة ومشتركة تلعب فيها الهيئة التأسيسية دورا محوريا ولكنه ليس حصريا.
مقدمة:
لاشك أن مسار التحول الديمقراطي الوطني لم ينطلق الانطلاقة الصحيحة كما بينا سابقا، فلم يأخذ حالة الصراع المسلح في الحسبان بل تبنى طريقا أشبه ما يكون بالوهمي منه بالفعلي. كما وأن التحول الديمقراطي لم يأخذ في الحسبان الحاجة الملحة للمصالحة الوطنية، بل أمعن في شق الصف بإصدار تشريعات تمييزية بما فيها قانون العزل السياسي، والمؤسف أن التشريعات ذات العلاقة بالمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية جاءت “انتقائية” وتفتقر إلى روح المصالحة بل وساعدت في الانقسام والانشقاق.
ومن المؤسف أيضا أن الخطة الدولية لليبيا التي وضعتها الأمم المتحدة وهي تؤسس وتعد بعثتها للدعم في ليبيا والمنصوص عليها في القرار رقم 2009 لسنة 2011، لم تتم متابعتها ولا تطبيقها من خلال بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وتركت ليبيا تتبع خطوات غير مدروسة لحالة الصراع المسلح الذي عاشته واستمر ليومنا هذا بناء على خطة وطنية فصلت في الإعلان الدستوري.
وبحلول عام 2015، عاد دور الأمم المتحدة وهي تمثل المجتمع الدولي لتأخذ زمام المبادرة ليس وفقا للقرار المذكور، ولكن بموجب خطة جديدة تحت مسمى “الاتفاق السياسي الليبي” الذي ابرم تحت اشرافها وبمعيتها ومن خلاله شكلت سلطتين جديدتين هما حكومة الوفاق الوطني ومجلس الدولة، بل أنها قامت بتسمية أعضاء المجلس الرئاسي بالملحق الأول للاتفاق السياسي، ولم تخضع هذا المجلس لإعتماد السلطة التشريعية وفقا للإعلان الدستوري ولم تسعى لتطبيق مقترح لجنة فبراير بانتخاب رئيس للدولة.
ضف إلى ذلك أن البعثة الأممية لم تتوقف عند حد التوقيع على هذا الاتفاق السياسي بل ذهبت إلى ابعد من ذلك واستصدرت قرارا من مجلس الأمن تحت رقم ( 2259 ) في ديسمبر 2015 أعتمدت بموجبه الاتفاق السياسي الليبي ومجلسه الرئاسي.
وهكذا أخذت الخطة الدولية الجديدة قصب السبق على الخطة الوطنية التي تراجعت بقوة، وتوالت المبادرات الدولية: مبادرة لاسيل سان لو، مبادرة باريس، مبادرة باليرمو، والتي قد تتبعها مبادرات أخرى تتقاذف الأزمة الليبية في حضور شبه شرفي لليبيين.
سبق لي تحليل هذه الخطة في مقالين كتبتهما عند إطلاقها. لذا سأعرج بإختصار عليها لكن المهم هو ما نتج عن هذه الخطة.
لم تأت هذه الخطة إلا بعد فشل الإتفاق السياسي الليبي ووصوله إلى حالة ليست فقط بالجمود وعدم التطبيق ولا بتكرار خرقه حتى من السلطات التي خلقها وأولها المجلس الرئاسي ذاته الذي تغول وبات يعمل كمؤسسة أمر واقع دون حسيب أو رقيب بل وانتحال صفات لا يملكها كالإدعاء المتكرر بأن رئيس المجلس الرئاسي هو القائد الأعلى للجيش والحقيقة استنادا للمادة (8/2-1 ) من الاتفاق أن المجلس الرئاسي (الذي انفرط عقده) بأكمله من يملك هذه الصفة، بل بعجز مجلس النواب عن اتخاذ موقف واضح تجاهه فهو لم يصدره كتعديل دستوري، لكنه يتعامل مع مؤسساته (التعامل مع مجلس الدولة على سبيل المثال) فحسب، لكن الأهم من كل ذلك هو أن الاتفاق السياسي لم يحقق هدفه من جمع المقسم وانهاء حالة الانقسام السياسي، بل باتت مؤسساته وأبرزها المجلس الرئاسي منقسما و طرفا في الصراع السياسي ذاته، واستمرأ الحكم ومزاياه، والغريب – أسوة بغيره من المؤسسات تجاوز المدة المحددة له (سنة/ سنتين مشروطة كحد أقصى)- ودخل في خطط السياسة ومتاهاتها بهدف البقاء.
ورغم أن الأمم المتحدة ومن يدعي مناصرتها من الدول في مسارها لم يعترفوا بالفشل، فإن موقفهم في تبني خطة جديدة مختلفة عن الاتفاق السياسي الليبي بالكامل، وتخفيف حماسهم تجاه الاتفاق السياسي الليبي بإطلاق وصف الإتفاق “الاطار/ المرجعية” عليه بعد أن كان الإتفاق “الوحيد” ، هو الكبرياء الموشى بالدبلوماسية عند الفشل.
المرحلة الأولى: تعديل الاتفاق السياسي بإتفاق ما بين مجلس النواب ومجلس الدولة استنادا للمادة 12 من الاتفاق السياسي الليبي.
المرحلة الثانية: التئام المؤتمر الوطني “الجامع”/ المهام الدستورية والتشريعية/ المهام العملية.
المرحلة الثالثة: ما بعد اصدار الدستور والانتخابات.
ورغم انعقاد اجتماعات بين لجنتي الحوار على مدار شهري (سبتمبر وأكتوبر) “بتونس” وبحضور السيد سلامة، واتفاق الطرفين على تقليص المجلس الرئاسي إلى ثلاثة وتعيين رئيسا للوزراء، إلا أن حجرات عثرة اجرائية تخص آلية الإختيار وأخرى تتعلق بالأسماء المقترحة حالت دون ذلك. من المهم القول إن السيد سلامة عرض مقترحا للتوافق، وافق عليه مجلس النواب وأصدر قرارا بذلك رحبت به البعثة الأممية آنذاك، لكن مجلس الدولة رفضه. وهكذا لم يكتب لهذه المرحلة النجاح.
وخلال هذا الشهر (نوفمبر)، عاودت الاتصالات بين لجنتي الحوار بالمجلسين، اللتان أصدرتا بيانات بالتوافق ووضعتا آلية لإختيار السلطة التنفيذية الجديدة وحددتا مراحل زمنية، وهو أمر تمت الإشارة إليه في إحاطة السيد سلامة أمام مجلس الأمن بتاريخ 9 . 11. 2018، وما تزال المبادرة لم تسفرعن نتائج ملموسة خاصة مكان الاجتماعات لوضع الآلية المتفق عليها موضع التنفيذ.
وبسبب عدم نجاح المرحلة الأولى، إتجه السيد سلامة للمرحلة الثانية وأوكل لمركز الحوار الإنساني وهو منظمة مقرها جنيف مهمة التنقل داخل ليبيا وعقد مؤتمرات شعبية سميت بالملتقى الوطني الليبي، بهدف الاستماع من خلالها لآراء الناس حول مسائل أساسية ومتشعبة تتعلق بأسس الدولة ونظامها ومواردها وأمنها وعلاقاتها الدولية والخصوصية الثقافية واللغة والدين والمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية والشأن الدستوري والانتخابات والمرحلة الانتقالية وانهائها. وكلها مسائل حيوية عادة ما تناقش قبل إعداد مشروع الدستور و/ أو في مراحله المتقدمة.
بتاريخ 6. 11 . 2018 سلم المركز تقريره إلى الامين العام وتم نشره.
قام السيد سلامة في إحاطته أمام مجلس الأمن بالتعريج على تقرير المركز وتحدث عن المؤتمر العام “الجامع” المقبل، ويمكن تلخيص رؤيته بالخصوص كما يلي:
- انتقاد الهيئات القائمة وخاصة مجلس النواب حول عدم اصداره قانون الاستفتاء على مشروع الدستور.
- انعقاد المؤتمر الوطني العام في الأسابيع الأولى للعام المقبل (2019).
- إن المؤتمر لن يكون هيئة ولكن حدثا، وأنه من اللازم أن تتلقى توصياته دعما دوليا.
- إن المؤتمر سيكون عاملا للتأثير والضغط على الهيئات الحالية للمضي قدما للوصول إلى انتخابات.
- إن المؤتمر العام لن يحل محل الهيئات التشريعية القائمة ولن يكون بديلا عنها.
- إن انتخابات عامة ستجرى في ربيع العام المقبل 2019 دون تحديد القاعدة الدستورية/ التشريعية.
ومن خلال هذه الخطة (المؤتمر الوطني “الجامع”) في مرحلتها الثانية دون تحقيق الأولى يتضح ما يلي:
- إن الخطة الوطنية المتمثلة في الإعلان الدستوري وما ترتب عليه من آثار من انتخابات وأجسام باتت في مهب الريح، وإن الطريق منذ 2015 أصبح طريقا دوليا، وها هو يأخذ منحنى جديد يصبح فيه الطريق الدولي هو الطريق الوحيد دون غيره، ودون اعتبار حقيقي للطريق الوطني.
- إن الخطة الوطنية تلفظ أنفاسها ليس بسبب الحرب والنزاعات المسلحة فحسب، بل بسبب وهن شرعية المؤسسات الحالية وتآكلها مع مرور الوقت دون أدنى مبادرة من هذه الأجسام في احياء المسار الوطني وتجديده وتقديم مبادرات وطنية فعالة.
- إن الإعلان الدستوري تم تجاوزه، واضعافه، بسبب عدم احترامه والإمعان في مخالفته الأمر الذي أضعف من المؤسسات المنبثقة عنه رغم إنها قامت بناء على انتخابات عامة.
- التذبذب في التعامل مع الاتفاق السياسي الليبي خاصة من قبل مجلس النواب، وعدم وضع استراتيجية في التعامل معه، مما أدى إلى فرضه وفرض اجسام تتعامل بسلطة الأمر الواقع والاستقواء بالقرارات الدولية والمواقف الإقليمية.
- استنادا لفرض سياسة الأمر الواقع، وضعت البعثة الأممية والمجتمع الدولي كامل ثقلهما خلف المؤسسات المنبثقة عن الاتفاق السياسي الذي رعته وتغاضت بالكامل عن الخروقات المستمرة للاتفاق السياسي. ما تزال تتحدث عن مجلس رئاسي رغم عدم قيامه اليوم وفقا للاتفاق السياسي الليبي، وتقبل قراراته والترحيب بها رغم صدورها بالمخالفة للاتفاق السياسي الذي يفترض الإجماع في صدورها.
- وفي نهاية المطاف فإن خطة العمل من أجل ليبيا في مرحلتها الثانية هي خطة للتحلل من المؤسسات الحالية بنفسها ووضع قواعد دستورية لمرحلة جديدة لا تكون هذه المؤسسات سوى أدوات لإصدارها بناء على توافق يجري في اطار المؤتمر الوطني الجامع.
في البداية لابد من الإشارة إلى أن الموقف الدولي عموما في الملف الليبي لا يعترف بالفشل، وأنه خارج اطار المحاسبة، فلا آلية تحاسب البعثات الأممية في تعاملها مع الأزمات وهو أمر يجب أن يكون محل نظر.
منذ صدور القرار رقم 2009 الذي وضع خطة دولية لليبيا دون تنفيذ، ثم فشل الاتفاق السياسي في التطبيق وتفاقم الازمة الليبية في ظله، وخطة العمل من أجل ليبيا التي لم تنجح في مرحلتها الأولى، يستدعي طرح السؤال التالي، هل ستنجح المرحلة الثانية من خطة السيد سلامة؟ وفي حال فشلها ما هي النتائج التي ستترتب عليها؟ ما هي توقعات النجاح والفشل؟
إن الاشكالية مع المجتمع الدولي أنه كتلة وهمية من دول عديدة تتضارب مصالحها تجاه ليبيا، وإن الحديث عن دعم “المجتمع الدولي” لبعثة الأمم المتحدة هو ايضا وهم ولعل الصراع الايطالي الفرنسي الحالي خير دليل، كما وأن الصراع الدائر في ليبيا ليس صراعا وطنيا صرفا.
كل هذا لا يعفي الاخفاقات الداخلية والتناحر المستمر، لكنه مسألة جديرة بالإنتباه.
لذا فإنه على البعثة الاممية أن تفكر في امكانية عدم نجاح هذه المرحلة أسوة بما سبقها من مراحل، وأن تستعد لذلك باكرا.
ولكي تعزز البعثة من خطتها المقبلة نقترح ما يلي:
- آلية وعملية الاختيار: مرت البعثة بتجربة سابقة غير مجدية ابان اختيار لجنة الحوار الليبي، اتسمت بالضبابية وعدم الشفافية وانفراد البعثة الكامل باختيار المتحاورين، وهو أمر على البعثة تفاديه بكل ما تملك من رجاحة عقل ودبلوماسية. ومسألة الاختيار في الازمة الليبية ذات حساسية مفرطة، تتنازعها المناطقية والتكوين الثقافي واللغوي ونسبة المرأة ومشاركة الشباب ناهيك عن وزن الشخصيات المشاركة ومدى مصداقيتها وفعاليتها وتأثيرها في محيطها.
- إن عملية الاختيار يجب أن تكون شفافة وتعتمد على آلية تكون أقرب إلى الانتخاب من الإختيار، ويمكن أن يكون في أدبيات الأمم المتحدة وتجاربها آليات شفافة ذات مصداقية لا تعتمد على الإختيار الشخصي ولا تتنازعه الأهواء. والأهم من كل ذلك عدم تدخل الأجنبي في هذه العملية على الإطلاق.
- التعامل مع المجالس القائمة بحياد وعدم تفضيل أية سلطة حتى وإن كانت مدعومة من المجتمع الدولي.
- الاستعداد فيما يتعلق بالتعامل مع القاعدة الدستورية المقبلة والتي ستكون معضلة حقيقية. وهو أمر انعكس في تقرير مركز الحوار الانساني وتم التطرق اليه في أكثر من فصل.
- الاستعانة بالخبراء الوطنيين وعدم الاقتصار على الدوليين.
- السعي لإمكانية توحيد المسارين الوطني والدولي وعدم اهمال الأول على حساب الثاني.
- التركيز على موضوع المصالحة الوطنية، والسعي لجعل هذا المؤتمر في إطار عملية مصالحة وطنية قطعا للمنافسة والصراع.
- من البين أن الاتجاه المقبل هو لتعزيز الخطة الدولية على حساب الخطة الوطنية التي تراجعت وتأزمت وتعقدت واشتدت حتى وصلت إلى مرحلة تآكل الشرعية لمؤسساتها المنبثقة عنها. لكن الحقيقة أيضا أن الخطة الدولية منذ عام 2011 قد باءت بالفشل بل وزادت من حدة الأزمة واعتمدت على فرض الأمر الواقع بل وساهمت وشجعت على مخالفة بنود الاتفاق السياسي ذاته، وليس أدل على ذلك من ترحيبها في بيان رسمي بتعديل وزاري رغم أن الاتفاق السياسي الليبي لا ينص على اجراء التعديلات الوزارية ويضع شروطا صارمة لاستبدال الوزراء وفقا لنص المادة (6/ حكومة الوفاق الوطني ) منه وهو ما لم يتبع بالخصوص. لذا فإن الفشل وجهان لعملة واحدة، مما يتعين معه أن تكون هناك وقفة جادة تقييمية للخطتين الوطنية والدولية.
- من المهم توقع امكانية فشل المؤتمر الوطني “الجامع”، مما يتطلب استعدادا خاصا وتعاونا وتنسيقا وشفافية، وأنه على بعثة الأمم المتحدة أن تعتمد سبيل الشراكة مع المؤسسات الليبية وان تتعامل معها بحياد وموضوعية دون تغليب مؤسسة على أخرى بحجة أن هذه وليدتها (المجلس الرئاسي/ حكومة الوفاق الوطني) ذلك أن مجلس النواب والهيئة التأسيسية هما وليدي الشعب الليبي.
- إنه من المتعين التفرقة ما بين صياغة مشروع الدستور وصناعة الدستور وإن الأولى هي جزء مهم من الثانية وليست ذاتها. إن صناعة الدستور يجب أن تكون في إطار المصالحة الوطنية، وإنها الهدف الاسمى وما كان دون ذلك يمكن مناقشته والتحاور بشأنه دون عنت أو تمترس بالخطة الوطنية أو الدولية بحذافيرها. يجب أن لا يتحول مشروع الدستور إلى عائق أمام المصالحة الوطنية. وأن المصالحة الوطنية أشمل من كل الكيانات القائمة وانتاجها والذي يجب أن يكون جزءا منها وليس مهيمنا على مسارها.
- إن العامل الزمني في عملية الصناعة الدستورية يجب أن يؤخذ بعين الإعتبار لتعقيد العملية ذاتها والظروف المحاطة ونتائج هذه العملية. كما وأن من المهم مواجهة حقيقة أن جهات الحكم القائمة غير قادرة على المضي قدما في هذا المسار المعقد ولا يتوقع منها ذلك، إضافة للإختلاف الجوهري بين الخطتين الوطنية والدولية في الشأن الدستوري. وهو ما يحتاج إلى مزيد من العمل والتشاور والتنسيق والتقارب ما بين الخطتين.
- على البعثة الاممية أن تحدد موقفها من مشروع الدستور المحال لمجلس النواب في عام 2017، وأن تواجه التعامل معها بشجاعة، خاصة وأن السير قدما بالعملية الدستورية يستوجب مضي زمن ليس بالقصير وإجراءات معقدة خارج قرار الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور ولا اختصاصها. كما وأن التمسك بالعملية الدستورية يجب أن لا يكون بهدف الاستفادة من التأخير الزمني و إستمرار بعض السلطات التي تعي تماما أن الوقت لصالحها بغرض البقاء أطول فترة ممكنة .
- إن مخرجات اتفاق الصخيرات ليست مخرجات نهائية بل أنها تراجعت لتصبح مجرد اطار عام، كما وأنها لم تعد أولوية بل يجب أن تخضع للنقاش والحوار أسوة بالمخرجات الوطنية بما في ذلك مؤسساتها المنبثقة عنها.
- من المهم أن تبين البعثة الأممية أنها تقود المرحلة المقبلة وفقا لقرارات مجلس الأمن وخاصة القرار رقم 2009 لسنة 2011، وأن توقف التدخلات الأجنبية المنفردة التي تضعف من القيادة الأممية وتشتت جهودها، وأن عليها أن تضع حدا لتدخلاتها حتى لا تفسد المرحلة القادمة ولا تضعف من مصداقيتها لدى افراد الشعب الليبي.
- أنه من المتعين توقع أن يتم في مرحلة المؤتمر الوطني “الجامع” تناول مسائل جوهرية سبق وأن تطرق اليها مشروع الدستور أو اجلها للسلطة التشريعية المقبلة، وانه في حال ذلك فإن ذلك سيؤثر حتما على المشروع ذاته ونصوصه. فلو تم التوصل إلى اتفاق بشأن المؤسسة العسكرية في مباحثات القاهرة، فإن نصوص المواد ذات العلاقة في مشروع الدستور قد تحتاج إلى تعديل. كما وأنه في حالة التوافق على العلم والنشيد أو موضوع الجنسية فإن هذا حتما سيؤدي الى تجاوز نصوص مشروع الهيئة التأسيسية. لذا من المهم التعاطي مع الشأن الدستوري بشفافية وأن يتعاون أعضاء الهيئة التأسيسية بهذا الشأن في اطار المصالحة الوطنية الشاملة.
- من البين أن الأزمة الليبية لن تحل بموجب خطة وطنية محضة وأن هناك حاجة لتدخل دولي، كما أن تجربة اتفاق الصخيرات (خطة دولية) قد اثبتت فشلها على الصعيد الوطني. إن على البعثة الأممية والمجتمع الدولي أن يتوقفا على ترديد أن حل الأزمة الليبية هو عمل ليبي محض وأنه قرار الليبيين انفسهم، ذلك أن هذا القول مغلوط وغير صحيح، فالمسار الدولي بات غالبا على المسار الوطني ومتقدم عليه . الحقيقة هي أن لا المسار الأول ولا المسار الثاني قادرين وحدهما على تقديم الحل. لذا يتوجب ادماج المسارين ومشاركتهما معا في تلمس الطريق نحو المخرج الذي بات يشتد ضيقا بمرور الزمن.
- إن على البعثة الأممية أن تتوقع احتمال فشل المؤتمر الوطني كما تتوقع النجاح وان تستعد له وتضع خطة بديلة لهذا الحال إذا ما حدث.
وما توفيقي إلا بالله.
محامية \ عزة كامل المقهور
17 . 11. 2018