تبنّي سيد قطب فكرة ” الحاكمية ” نقلا عن المفكر الهندي أبو الأعلي المودودي ، لأول مرة في التاريخ الإسلامي ، فلم يرد هذا المصطلح عن الرسول ( صلى الله عليه و سلم ) أو عن الصحابة أو الائمة الأربعة مطلقاً.
كان المودودي يعيش في مجتمع هندي تُدين غالبيته بالهندوسية والبوذية معرقلة مسيحية وأخرى مسلمة ، فكان لب فكرته يقوم على أسلمة المجتمع غير المسلم ، نقل الفكرة سيد قطب المتذبدب نفسياً ، فقد إنتقل من الإلحاد إلى التطرف بعد عودته من أمريكا وحالة عدم الإندماج التي عاشها في أمريكا و نظراً لظروفه النفسية وسجنه من قبل عبدالناصر وحكم الإعدام عليه.
وكما هو معروف نقل سيد قطب الفكرة وشرحها وأسقطها على مجتمع مصري أغلبيته مسلمة وأقليته مسيحية فكانت الفكرة مستهجنة لدي الإسلام الوسطي المصري المتجدر عبر مؤسسات علمية دينية عريقة مثل الأزهر ، وكانت كتابات قطب عبارة عن أدبيات و إنشائيات صاغها بلغة ساحرة كان يملكها و تمكن فيها ، ومنها كتاب ( معالم في الطريق ) والذي يصل فيه لنتائج دون مقدمات مبنية على منهج قويم .
كانت الفكرة تعاني من مشكلة ومعضلة منهجية ، فنحن أمام مجتمع مسلم تخرج فيه جماعة تريد أسلمته وداخلها ينشأ حزب يريد الحكم بإسم الإسلام !!! فكان سبب سقوط الإخوان عامة من “وجهة نظري” نتيجة لهذا الخلل المنهجي أولاً ولأسباب أخري مثل العمل السري واللجوء للعنف والقتال لاحقاً .
اما إخوان ليبيا الذين ينقلون عن أخوان مصر فكان كلام السيد بشير الكبتي “مراقب إخوان ليبيا ” عن مجتمع ” ليبيا المسلم كلياً ” كلاماً مضحك يثير الإستهزاء حين قال : ( نحن نريد أسلمة المجتمع الليبي المسلم سلميا !!! )
ومن هنا يتأكد بأن إخوان ليبيا في مأزق بُنيوي ، فكيف لجماعة تنشط داخل مجتمع ليبي مسلم بنسبة 100% وبمنهجية إسلامية أن تسعى لأسلمة هذا المجتمع نفسه ؟! هذا من جهة – ومن جهة أخرى – لمن سيكون الولاء في حالة نشوب خلاف بين ليبيا و مصر ( بلد المرشد والمنشأ ) في حالة حكَم الإخوان مصر ؟
مع الأخذ في الإعتبار بأن الولاء للمرشد في مصر شيئ أساسي لقادة التنظيم وفق القانون الأساسي للجماعة والمادة الرابعة التي تنص على عدم إتخاذ أي قرار يخص الأقاليم إلا بعد موافقة المرشد العام .
القيادي الاخواني السابق ؛ ثروة الخرباوي .
كما أن السؤال الشرعي الجوهري ؛ كيف يكون للمؤمن بيعتان و ولايتان ، ولاية للحاكم في بلده و ولاية للمرشد في مصر ؟! فهي بدعة لم يأتي بها أي من أصحاب البدع من قبل ، ثم أن مصطلح الحاكمية يعتبر بدعة في حد ذاته ، فلم يذكر في القرآن ولا بالسنة ولا حتى عند الائمة الأربعة أو مع إسلام مؤسسة الأزهر الوسطية أو مؤسسة الزيتونة في تونس أو غيرها من المؤسسات الدينية العريقة العتيدة ، بل ذُكر بصيغة ( الحكم لله ) وظهر هذا اللفط لأول على يد الخوارج الذين خرجوا لقتال سيدنا علي وضد معاوية و كفروا الأثنين معاً !.
و كما أسلفت نقل سيد قطب فكرة المودودي للعربية ، وفي وقت وظروف كتابة هذه الفكرة كان يقبع في السجن بعد خلافه مع الرئيس جمال عبدالناصر ، ومع الأخذ بالحالة النفسية لكاتب يعيش في غياهب السجون وينتظر حكم الموت ، كيف تريده أن ينظر لسجانيه؟؟ وكان هذا بالطبيعة ما دفعه لتكفيرهم جميعاً مستفيداً من السيولة اللغوية التي كان يمتلكها ، فقد كان كاتباً ساحراً إمتهن النقد الأدبي والفني مع الكاتب الكبير العقاد الذي يقول هو نفسه عنه : ” إن العقاد أنقذني من الإلحاد . ”
هذا من جهة ومن جهة أخري يبرز السؤال الكبير جداً ، ما هو تعريف الوطن بالنسبة للإخوان ؟ فإخوان مصر مثلاً يقولون أن أرض الإسلام هي الوطن ولا يعترفون بالمواطنة ويؤمنون بأن مصر جزء من الوطن وليست كله وأن ماليزيا و تركيا مثلاً أيضاً جزء من هذا الوطن بل وبأن لا مانع لدينا أن يحكمنا رئيس من ماليزيا كما قال بذلك المرشد العام للاخوان المصري السابق ( مهدي عاكف) ! .
وبالتالي ومع كل ماسبق أجد نفسي أمام سؤال أكبر هو : هل يتخذ إخوان ليبيا و هم أتباع لإخوان مصر من ذات هذه القناعة قاعدة لهم لتكون هذه هي الكارثة الليبية بكل المقايس ؟ قد يقول قائل بأن هذا نوع من الخصومة ولكن ماقد يؤكد صحة ماذهبت له هو أن إخوان مصر صرحوا في أكثر من مناسبة بأن ليبيا بيت مال للمسلمين وكان هذا بحضور الأتباع من الإخوان الليبيين ولم يعلق منهم أحد عن ذلك . !
فهل ياتري يوافق إخوان ليبيا علي هذا الرأي أم لهم رأي يخالف المرشد و بالتالي تسقط البيعة ؟! شخصياً أشك في ذلك !
كما أن التنظيم السري للجماعة وعملها السري يجعلانها جماعة وشبكة مريبة لا يعرف أحد شيئ عن أهدافها أو عن من يحركها حتي من المنتمين لها نفسهم ، فالذي يعرف الحقيقة هم قلة في مكتب الإرشاد بالمقطم ( مقر قيادة الإخوان سابقاً في القاهرة ) أما البقية فيقولون بالسمع والطاعة حتي و إن تظاهروا بعلمهم بكل ما يجري داخل الجماعة و التنظيم .
ومن كل ما سبق ، أستخلص وأعتبر بأن إثبات تبعية أي من مسؤولي وموظفي الدولة الليبية للإخوان يعتبر جرم قانوني هذا أولاً ، فمبجرد إعتراف مسؤول ليبي أو ثبوت دليل بأنه إخواني منخرط في التنظيم يجعله متهماً بالتخابر مع دولة أجنبية بلا أدني شك.
أما ثانياً ، أنا أعتبر بأن تنظيم الإخوان مجرد “دكان بقالة سياسي ” مصري غير مسموح لغير المصري إدارته مهما علا كعبه ، فلقد مات د. حسن الترابي المفكر والمثقف الموسعي
و السياسي المخضرم و الكاتب السوداني المعروف أحد أهم مفكري الإخوان بل وأشهرهم دون تقلد منصب المرشد الذي سعي له مراراً ولكن دون جدوى وهذا شاهد بسيط على ما ذكرت بالخصوص .
كما سعى لذات الهدف عضو التنظيم المفكر التونسي راشد الغنوشي بوقت لاحق وهو الذي خرج مؤخراَ ليقول بأن النهضة في تونس إنفصلت تنظيمياً عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين ليحمي نفسه قانونياً من تهمة التخابر مع الأجنبي وليس كما فعل خالد المشري رئيس مجلس الدولة الإستشاري بليبيا في لقاء مع ” قناة فرنسا 24 ” معلناً فيه تبعيته الصريحة للتنظيم الإرهابي للإخوان المسلمين.
هذه رسالتي لإخوان ليبيا ليعرفوا أن أي منهم مهما تبوأ من درجة في التنظيم السري للإخوان والجماعة فلن يحظى بأي مكانة عليا كما يحظى بها القادة المصريون الكبار ، وبكل ثقة أقول بأنكم مجرد تُبّع لمرشد في بلد المنشأ ، بلد المنشأ ، مصر التي قطعت صلتها مع هذا التنظيم وحظرته و إعتبرته إرهابياً و زجت بقيادته في السجون بعد الجرائم الشنيعة المتكررة و عقود العمل السري و التخابر مع دول أجنبية بعينها .
لقد تأسست جماعة الإخوان في مدينة الإسماعيلية بمصر سنة 1928 على يد مدرس الخط العربي حسن البنا ،وبعلاقة قوية مع بريطانيا ثم لاحقاً مع أمريكا و هذا ما أشار له ” آين جونسون ” مؤلف كتاب ” مسجد في ميونخ ” وهو الكاتب الكندي الذي رصد في مقال نشر بصحيفة ” وول ستريت جورنال ” تاريخ العلاقة بين الإخوان والأمريكان حتى وصفه بأنه تحالف سري بدء في الخمسينات ؛ تم فيه الإتفاق على قتال الشيوعية وتهدئة التوتر في أوروبا .
وبشهادة التاريخ المثبتة غير القابلة للتحريف والتدليس ، لقد خرجت معظم الجماعات الظلامية التكفيرية من عبائة الإخوان فتنظيم القاعدة الإرهابي مثلاً كان مؤسسه الإخواني عبدالله عزام ومعلوم للجميع تبنيه من قبل المخابرات الأمريكية لإسقاط العدو السوفيتي في أفغانستان قبل أن يتحول التنظيم نفسه إلى عدو للولايات المتحدة بعد أن تركته للعراء في نهاية الإنتصار على الإتحاد السوفيتي الذي تفكك على يد الرئيس الروسي ( بوريس يلتسين ) فوجهت بنادقها لحليف الامس ، هي أمريكا ذاتها التي ضربتها القاعدة في تفجيرات نيروبي و دار السلام و الخُبر بالسعودية ثم بغزوة برجي التجارة العالمي والبنتاغون في نيويورك وواشنطن أو ما عرف بهجمات 11 سبتمبر .
لقد جاء مشروع ” باراك أوباما ، هيلاري كلينتون ، جيفري فيلتمان ” تتويجاً للعلاقة التاريخية لقيادة فصيل الإخوان أو ما يعرف بجماعة الاسلام السياسي في منطقة الربيع العربى كإصلاح للخطأ الفادح ولتعويض ما عُرف خلال سنوات الحرب ضد السوفييت بـ ” الأفغان العرب ” وتمكينهم في بلدانهم ، وفي المحصل هذه هي العملية التي أطلق عليها أوباما إسم ( الربيع العربي ) ولكن المشهد تغير برمته بعد وصول ” دونالد ترامب ” لسدة السلطة في البيت الأبيض.
وبالعودة إلى منطقتنا فأن الذي أفشل المشروع كلياً كان إنتصار الجيش المصري لرغبة الشارع الذي خرج ضدهم بأكثر من ثلاثين مليون متظاهر ، فلقد كان مشهد سقوط الإخوان في بلد المنشأ مروع وفاضح لكل سلوكيات هذا التنظيم الإجرامي .
إلى تونس ، فلقد فقد الإخوان روح الشارع بعد أدائهم السيء والبائس خلال سنة واحدة من الحكم بعد سقوط الرئيس زين العابدين بن علي ، أما في ليبيا فأن مشهد السقوط قيد التنفيذ بعد تحرر إقليم برقة نهائياً بفضل الجيش الليبي ومعركته ضد الارهاب وقطعه لأذرع الإخوان المسلحة وحلفائها من القاعدة وداعش .
وفي المحصلة لم يبقى لهذه الجماعة سوي طرابلس حيث يتواجدون ، فليقي الله الأبرياء فيها شرهم ، ويخلّص مؤسساتها من هيمنتهم قريباً جداً وهي التي ستكون حاضنة مراسم الدفن الكبيرة للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين وتشييعه نحو مثواه الأخير .
إنها مكر السياسة و لعنة التاريخ ونتائج تلبيس الدين المقدس على السياسة المدنسة .
باحث وكاتب