بقلم د. كامل المرعاش
السراي الحمراء او “ام السرايا “كما تغنى بها الفنان الكبير محمد حسن، تمثل ذاكرة تاريخية حية لوطن اسمه ليبيا وعروسا للبحر اسمها طرابلس، ورسمت هذه القلعة الشامخة، عبر جدرانها واحجارها التي تميل للحمرة وازقتها الضيقة الملتوية، ومصاطبها الصغيرة، صورة واقعية جميلة ومأسوية في نفس الوقت، عن حقب التاريخ الاستعمارية التي توالت على ليبيا منذ الزمن الغابر الموغل في القدم. زاوجت هذه القلعة الشامخة بين الحياة المدنية الزاخرة بالحياة الاجتماعية والفنية، فتعايش في احشائها، التجار والحرفيين والبنائين “والحواته” “والذهابة” و “الخضارة”، وبين حياة الثكنة العسكرية او الحصن المنيع، وهذا ربما السبب الذي جعل كل الحكام الذين سيطروا على ليبيا، يعتبرونها المكان الأكثر امنا، وهكذا أصبحت مقرا لقيادة الجند، وسجنا لكل المتمردين والثائرين والجياع، وسكنا للولاة والقراصنة والحكام وحاشيتهم.
كنت ذات يوم شتوي بارد في أواخر تسعينات القرن الماضي، في الطريق الى مدينة غرونوبل الفرنسية، صحبة ثلاثة أصدقاء ليبيين، في زيارة الى عالم التاريخ والاثار الفرنسي المرحوم اندريه لاروند، سليل هذه المدينة الجميلة، في رحلة القبول على تسجيل للدراسة العليا. اخذنا القطار في محطة ” ليون بيراش”، وكانت الثلوج تغطي جانبي الطريق، والمشهد ابيض جميل، حبات الثلج البلورية تتثاقل على اغصان الأشجار، والقطار ينطلق كالسهم يشق ركام الثلج المتطفل على سكة الحديد، واصحابي في مقصورة القطار، يترترون ويحلمون بوجود هذا المشهد الثلجي الابيض في بلادنا.
وصلنا بعد نحو ساعة من الزمن لنجد السيد لاروند في انتظارنا، وفورا ركبنا “الترام واي” الذي اوصلنا الى بيت السيدة المضيافة اخته، التي اعدت لنا وجبة الغذاء، التي غلبت عليها المعكرونة وقطع الدجاج المشوي “ماركة حلال”، ولكن لم تغب عنها سلة الاجبان الفرنسية الشهية، والكثير من خبز “الباغيت” الساخن الرائع، الذي ذهبت السيدة لإحضاره ساخنا من المخبر في أسفل البناية. وكان السيد لاروند صائبا في توصيته لأخته، لإحضار الكثير من خبز “الباغيت” (العصا)، لخبرته الطويلة بالليبيين وليبيا، لان اصحابي كانوا يأكلون المكرونة بالخبز، والسلطات بالخبز، والاجبان بالخبز، والخبز بالخبز، واجهزوا على كل السلال المملؤة بمربعات قطع الخبز، المطروحة على سطح مائدة الاكل.
وبعد الغذاء، وعلى فنجان قهوة “لافاتزا”، بدانا بحسم موضوع القبول الدراسي لأصحابي الثلاثة، بكلمة واحدة من السيد/ لاروند/ ” نو فوز انكيتي با” بمعني “لا تقلقوا”، وبدأت الحديث بعدها عن رحلاته الى ليبيا، حيث ان المرحوم البروفيسور لاروند كان أحد أبرز الأثريين الذين عملوا على توثيق التراث التاريخي الثقافي الليبي، بعد أن أمضى الجزء الأكبر من حياته للعمل في حقل الدراسات الأثرية المتخصصة، وهو مؤسس ورئيس بعثة الاثار الى ليبيا، لدي منظمة اليونسكو.
بدا هذا العالم الكبير في الحديث عن ليبيا وتاريخها واثارها، بإسهاب واعجاب شديد، تجاوز اعجابنا ومعرفتنا نحن بتاريخ وروعة اثار بلادنا. واذكر من حديثه انه قال ان ” ليبيا جمعت تراث وحضارات كل العالم القديم والوسيط والحديث”. وقال انه كان في رحلة للإشراف على صيانة قلعة السراي الحمراء، التي كانت تتولاها منظمة اليونسكو. وبادرته بسؤال حول هذه القلعة او الحصن، من بدا ببنائها، ولماذا اختير مكانها، ومن هو أكبر من كانت بصمته عليها؟؟؟
أجاب البروفيسور عالم الاثار لاروند، ان تاريخ قلعة طرابلس يرجع إلى أصول موغلة في القدم وقوس (ماركوس اوروليوس) في ناحية باب البحر شاهد عيان على قوة المعمار في طرابلس منذ ازل قديم. وانه حسب الاثار القديمة، فان القلعة بها اثار رومانية وفينيقية ثم بيزنطية، وكان يلفها سور عال تقع على انحائه أبراج عالية، كان سدا في وجه من يحاول ان يقتحمها”، وتناوب في بنائها الرومان والفينيقيون والبيزنطيين والعرب والاسبان وفرسان القديس يوحنا المالطي والأتراك العثمانيين ثم الايطاليين والبريطانيين. وربما من اهم معالمها الذي اشترك فيه كل غزاة القلعة هي الجدران والسور والابراج وأشهرها ” برج سانتا باربرا”، وهذا ما يفسر ان الصحابي الجليل عمرو ابن العاص، واجه صعوبة عام 21 للهجرة 642 ميلادي، في السيطرة عليها الا بعد نحو شهرين من الحصار. وقد تعرضت القلعة إلى تغييرات واضافات كبيرة في عمارتها، حسب ذوق ومتطلبات كل حكم، وتبلغ مساحتها (1300 م2) وتبلغ أطوال أضلاعها: من الشمال الشرقي (115م) ومن الشمال الغربي (90م) ومن الجنوب الغربي (130م) ومن الجنوب الشرقي (140م) ويبلغ أعلى ارتفاع لها (21م).
وما استوقفني خلال السرد التاريخي الجميل الذي كان يلقيه البروفيسور لاروند وكأنه على منصة “انفاتيتر”، والذي كان على ان اترجمه من حين لأخر لأصحابي الحاضرين، انه تحدث عن الفترة حكم الاتراك العثمانيين، وهي أطول فترة استعمارية، حيث امتدت من 1551 الي 1911. وكنت متلهفا لمعرفة إنجازات هذه الحقبة الطويلة من الزمن، فكانت اجاباته، مترددة ومرتبكة وقال فيما اذكر، ان العثمانيين استمروا في استخدام هذه القلعة مركزا للحكم، وعززوا اسوارها، وحول (مراد آغا) الكنيسة التي كانت داخل القلعة إلى مسجد، واتخذها ولاة الأتراك العثمانيين سكنا ومقرا لهم ولأسرهم، ولحاشيتهم من الإنكشاريين. وعندما تمرد أحمد باشا القره مانلي عن الإمبراطورية العثمانية في هضبة الاناضول واستفرد بحكم البلاد في عام 1711م، أبدى هو ومن خلفه من اسرته في الحكم، اهتماما خاصا بالحصون الدفاعية وابراج المراقبة.
ويضم حصن السراي الحمراء في العهد القره مانلي بناء خاصا للوالي، به قاعة فسيحة يستقبل فيها الوفود وقناصل الدول الأجنبية، وكانت بالحصن أيضا مقر قيادة الجند، ودار الضرائب او “الميري” ودار لصك العملة، وديوان القضاء، واكزاخانة “صيدلية”، وبعض المخازن والمطاحن والسجون.
ومن بين ما استوقفني، من إنجازات العثمانيين، انهم صمموا جدارا بطول 40 مترا، وهو يمثل السور الخارجي للسجن، ونصبوا عليه الخوازيق، حتى ان الجدار سمي في التراث الشعبي الليبي المتواتر والمنقول ب “ساس الخازوق”، نسبة الى هذا الجدار الرهيب، الذي كان مسرحا مفتوحا في الهواء الطلق لمعاقبة الثوار والمتمردين ورافضي دفع الضرائب “الميري” للولاة العثمانيين. وهنا أدركت وفهمت، سبب ارتباك السيد لاروند، في شرح كل تفاصيل أطول فترة تاريخية لحكام السراي الحمراء، والامر مرتبط باحترام هذا العالم لمشاعرنا الدينية الاسلامية، والتي نتشارك فيها مع مستعمرينا العثمانيين، فلم يرد الحديث بسلبية عن هذه الفترة السوداء من تاريخ القلعة.
لأكثر من خمسة قرون من حكم الاتراك لليبيا، لم يتغير كثيرا شكل حصن السراي الحمراء، وكان حجم التغيير محكوما بحاجة الولاة للاستمرار في الحكم، والذي كان يتمحور حول تلبية ملذاتهم الشخصية، وعوائلهم وحاشيتهم وجندهم الإنكشاري. لقد تعطل وتوقف تماما الفكر العثماني الحاكم لقرون عن البناء والابداع، رغم ان القلعة كانت تعج بالعقول المبدعة من الصنائعيين والبنائين والحدادين، ولكن حتى هؤلاء احتكر الوالي العثماني مهاراتهم وسخرها لبناء أبراج المراقبة والسجون وتطويع الحديد بنافخي الكير، لتكون خوازيق عثمانية يعاقب بها، أبناء البلاد العرب من البدو والاحرار والجياع والمتمردين.
ومن يريد مزيد معرفة إنجازات العهد العثماني في ليبيا عليه قراءة رواية الكاتب الكبير محمد عقيلة العمامي “الكراكوز” التي أضاءت لنا حقائق تاريخ الاتراك الدموي في بلادنا باسم الإسلام وخليفة المسلمين في الأرض.
ويبدو ان من اهم إنجازات العثمانيين هو اختراع الة الموت الرهيبة “الخازوق”. ولم تبلغ حتى المقصلة الفرنسية ما وصل اليه الخازوق العثماني كالة تعذيب وحشية، تنتهك ادمية الانسان، وأصبحت “علامة عثمانية” مسجلة في عالم الفظاعات والسادية في القتل. لم يستثن ولاة العثمانيون في ليبيا من الخازوق معارضا او ثائرا او متمردا او جائعا لم يستطيع دفع “الميري”، وجاب الجلادون من جند الإنكشارية جميع نواحي البلاد، للقبض على كل متمرد بدوي او من يرفض دفع ضرائب الولاة، حتى في سنوات القحط والجفاف من مثل أعوام الرمادة، فالوالي لا يبالي، وهمه جمع المال وتكديسه، لإشباع غزواته ونزواته وما ملكت يمينه!!!
وتقول احدى الروايات الشعبية الليبية على لسان أحد الرواة انه بسبب مقتل ابن أحد الولاة العثمانيين، على ايدي أهالي قبيلة القواسم وهي من قبائل غريان، جاء بيت “الشاعر المحمودي” في وصف ما حدث لابن الوالي، المثل الذي يضرب في الخيانة للوالي العثماني، حين قال ” غريان خيان ووادي القواسم بزايد، قتلوه ركاب الحمرة ولد بي ماهوش قايد”. والمعني ودائما على عهدة الراوي، ان أحد ولاة طرابلس أرسل ابنه لجمع الضرائب من قبائل غريان، وان هذا الابن كان متسلطا ومتعجرفا، فقام بقطع يد طفل غرياني بسبب اكله لقطعة لحم من الوليمة التي اعدت له ولجنده، فتجمع راي مشايخ القبائل للانتقام لام الطفل التي استغاثت بشيخ أحد قبائل غريان القوية، ورفض غطرسة ابن الوالي وتذمرا من فرض هذه الضرائب، فنصبوا كمينا محكما لقافلة ضرائب الوالي، في أحد اودية ابوغيلان، وقتلوا ابن الوالي وجنده الإنكشاريين وارجعوا كل الضرائب الى أصحابها. وفي وصف المشهد قال الشاعر الشعبي “المحمودي” الذي كان مرافقا لقافلة الوالي المثل المعروف، والذي يصف قبائل غريان بخيانة الوالي العثماني وقتل ابنه “ولد البي” الذي كان يركب فرس حمراء ويقودها “يهودي” حيث اشتهر اليهود في ذلك الزمان كقوادة للخيول والجمال. وعقب هذه الواقعة، جند الوالي العثماني حملة إنكشارية دموية اسر فيه أكثر من مئة شيخ قبيلة من غريان، وقتلهم وعلق رؤوسهم على جدار خوازيق العثمانيين في السراي الحمراء.
ويبدو ان شبح خوازيق العثمانيين قد ظهر من جديد ومازال يلازمنا في الالفية الثالثة متمثلا في عقول شخصيات ليبية تريد اقناعنا بان الماضي العثماني مشرف وحامي للإسلام، رغم جرمهم التاريخي في تسليمنا للاحتلال الإيطالي وبيعنا بثمن بخس من ليرات الذهب عام 1912.
فعندما يقف أحد هؤلاء الخوازيق امام “ام السراي” ويدعى زورا وبهتانا على التاريخ، بأن العثمانيين هم من شيدها، فعلينا ان نعرف انه خازوقا عثمانيا ما زال يمشي على الأرض، يتنفس الكذب، ويشرعن الإرهاب، ويتقمص المدنية الكندية بربطة عنق مسد النار، ويلبس قناع الدين بلحيته الصفراء الدميمة، ويدنس طهارة ساحة شهداء ام السراي، التي وثق من مكانها هرطقته المقززة!!
وعندما يوقع رئيس حكومة مشبوه ومعتوه، مذكرات وتفاهمات مع العثمانيين الجدد في انقرة، وجلب لنا الحوت الأزرق الذي ظهر على شواطئنا لينبهنا الى سمك القرش الفتاك الذي أصبح رغم الاف الاميال التي تفصلنا عنه يشاطئنا، فيجب ان تدرك انه خازوق يسافر ويطير وينتشر ويقتل بدون حدود وبسرعة وباء الكرونا عفانا الله واياكم.
وعندما يوجد لدينا مفتي كريم العين، اسود القلب، دموي المنهج والعقيدة، يمدح السلطان العثماني ويدعو له في كل صلاة، ويوزع الشهادة والميداليات على موتى الاتباع، فتيقن أنك امام خازوق معتق تعشش في راسه أفكار مصاص الدماء “دراكولا”.
وعندما يروج أحد صلبان قطر ويكتب ويزور الدين والمنهج والعقيدة، والذي استصرخ رميم الدم التركي الهالك في ليبيا، ليجذب السلطان الدموي التركي الجديد لينال مساعدته في قتل ابناء شعبه وأهله وذويه، فاعرف أنك امام خازوق دموي، لا يتحرك الا وتحرك معه الخراب والدمار والموت.
وعندما يجلب لك مسؤول امنك الأول، طاعون الإرهاب من بلاد الشام بمعية سلطان الدم والفوضى ويشرعنه بمذكرة تناغم جينية، فاعرف أنك امام معتوه يملاه عقله وقلبه الحقد الأعمى، على اهل بلده.
وعندما يلهث عجوز اخرق وراء سفراء وقناصل البلدان قاصيها ودانيها، ويزور تبات موت المخدوعين، وكل ذلك لتصبح ليبيا “في الهاوية”، التي وعدها بها عندما كان أحد نواب الشعب المسكين!!!
هؤلاء الخوازيق وامثالهم كثر، هم من كبلوا ام السراي ومعها طأطأت عروس البحر طرابلس راسها، وأصبحت مشيتها عرجاء، دميمة الوجه، تلفها الرايات السوداء، تتربص بها اكوام القمامة، وتأكل من لحمها ولا تشبع القطط السمان.
فبفعل هذه الخوازيق العثمانية، ماضيها وحاضرها، استفحل الورم، وتقيء الجرح، وتعفن الجسد، وماتت النخوة، وحفار ي “الهاوية” مازالوا يحملون فؤوس ومعاول الهدم!!!
فهل من مغيث، فقد طال المخاض، وتسلل الإحباط، لقلوب وعقول الصامتين الكثر، ممن يرفعون شعار “معاهم/معاهم وعليهم/عليهم”، وفرح الشامتين والمغفلين وسفهاء القوم!!
فمتي يا جيشنا الوطني الظافر وقيادته الشجاعة، تدخل ساحتها، تحرر سرايتها، تفك اسرها من عقال الشر الذي يبس مفاصلها، وتنشر كتائب جيش الفتح المبين على سواحلها وحواضرها وبواديها، على وقع الملحمة الوطنية “دونك للساحة وادخلها” الرائعة للثنائي ” المدير/ العكوكي”، لتكون ام السرايا عصية على الاخواني والعثماني؟؟؟
د. كامل المرعاش
باريس / 16. 03. 2020