المصرف المركزي.. النفط.. الوطن الأزرق.. لماذا تتدخل تركيا في شؤون ليبيا ؟

ليبيا – أصدر معهد أبحاث السياسة الخارجية الذي يتخذ من الولايات المتحدة مقرًا له تقريرًا مطولاً من تأليف الباحث الليبي جلال حرشاوي عن تدخل تركيا في ليبيا.

التقرير الذي تابعته وترجمت صحيفة المرصد أبرز ما جاء فيه يؤكد حرشاوي في مقدمته أن التدخل التركي في الشؤون الليبية يستلزم تحليلاً تأريخيًا لتحديد الدوافع المنطقية وتصورات التهديد الذي تمثله إستراتيجية أنقرة الحالية بشأن ليبيا.

وتطرق حرشاوي في ذات الوقت إلى مصادقة البرلمان التركي في الـ2 من يناير الماضي على التدخل رسميا في ليبيا وهو الأمر سبقه بأسابيع قليلة أي في الـ27 من نوفمبر من العام 2019 إقناع رئيس تركيا رجب طيب أردوغان للمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق لإبرام مذكرة تفاهم بحرية مع بلاده.

وأضاف التقرير أن الاتفاقية التي لم يتم المصادقة عليها بعد حددت خطا بحريا بعرض 16 ميلا يمتد من جنوب غرب تركيا وصولا إلى الشمال الشرقي لليبيا حيث تم تحديد هذا الخط كمنطقة اقتصادية حصرية تتجاهل حقوق اليونان ليتم أيضا في المقابل ومن خلال مذكرة تفاهم أمنية التزام الجانب التركي ببالقيام بما وصفوه بـ”الدفاع عن العاصمة طرابلس”.

وأشار التقرير إلى تنفيذ الأتراك لعملية تكتيكية الهدف لوضع حد لتقدم الجيش لاستعادة العاصمة طرابلس والتي مر عليها في حينها 8 أشهر ليشهد ربيع العام 2010 انسحاب هذه القوات من شمال غرب ليبيا على خلفية دعم عسكري تركي للقوات التابعة للمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق.

وبين التقرير أن الأمر المستغرب هو قيام الدول الساعية لإيجاد حل سلمي للأزمة الليبية بإصدار بيانات شديدة اللهجة لإدانة التدخل العسكري التركي في الشؤون الليبية بوصفه مقوضا لهذه المساعي فيما لم يصدر عن واشنطن وموسكو أي رد فعل.

وأضاف التقرير أن قيام الأترك بإرسال السلاح وتقديم الدعم العسكري وتعزيز نفوذهم في ليبيا لا يظهر أن لديهم نية لمغادرة البلاد في المستقبل المنظور وهو ما يحتم دراسة الأحداث والأساس المنطقي الذي بدأ بالتسلسل تأريخا منذ إبرام مذكرة نوفمبر من العام 2019.

ويمضي التقرير في الإشارة إلى تاريخ المواقف التركية إزاء القضية الليبية فهي قد وقفت مع النظام السابق وبالضد من الحملة التي شنها حلف شمال الأطلسي “ناتو” للإطاحة بهذا النظام عرفنا منها بمواقفه المؤيدة لاحتلالها لشمال جزيرة قبرص عام 1974 فيما تم خلال السنوات التي تلت ذلك تناميا في العلاقات الاقتصادية بين الجانبين.

وأضاف التقرير أن هذا التنامي جاء بعد صفقة ديبلوماسية تم إبرامهها مع الولايات المتحدة في العام 2003 لرفع العقوبات الدولية عن ليبيا في ظل ارتفاع أسعار النفط في تلك الفترة مشيرا في ذات الوقت إلى إعلان ليبيا في مايو من العام 2009 عن منطقة اقتصادية حصرية وإشارتها إلى انفتاحها على إبرام الاتفاقيات الدولية.

وبين التقرير أن ما حصل في مطلع العام 2011 أزعج الأتراك كثيرا لأن شركاتهم كانت قد أبرمت اتفاقيات بحجم 20 مليار دولار في مشاريع البناء والإنشاءات والطاقة ، مؤكدا أن هذه المصالح الاقتصادية الهائلة تمثل دليلا كافيا لتوضيح سبب معارضة تركيا للتدخل العسكري الشمال أطلسي عام 2011.

وأضاف التقرير أن الإصرار الأميركي الذي أقنع تركيا على التخلي عن رفضها للتدخل العسكري في ليبيا والانضمام إلى حملة “ناتو” هناك جعل حزب العدالة والتنمية الحاكم يفكر في السبل التي من الممكن عبرها بناء أيدلوجية جديدة تضمن مصالح أنقرة في عهد ما بعد النظام السابق.

وأكد التقرير أن هذه الآيدولوجية تتمثل في دعم الإخوان المسلمين في كلا من سوريا ومصر خلال الفترة الممتدة بين العامين 2011 و2013 من خلال التعاون الوثيق بين قطر وتركيا ممن استخدما الإسلاميين الليبيين لزعزعة الأوضاع وإسقاط النظام في سوريا.

وأضاف التقرير أن هذه العلاقات استمرت منذ ذلك الحين إلا أن هذا الأمر لا يعني أن تقوية الإخوان المسلمين هدف تركي بحد ذاته بل هي تستخدمهم لتنفيذ أجندتها في الدول العربية مثل ليبيا التي لم يكن للإخوان أي شعبية كبيرة لهم فيها لتأتي أحداث العام 2011 وتسهم بإيصالهم إلى السلطة في البلاد.

ووصف التقرير التدخل العسكري المباشر في ليبيا بالذي أتى في الشوط الثاني فالحرب التي شنها الجيش في العام 2014 لتحرير بنغازي من مجموعات الإسلام السياسي في المدينة لم تشهد المشاركة عبر سياسة منهجية من قبل الأتراك الذين لم يتعدى دورهم حينها غض الطرف عن شحنات الأسلحة التي كانت تصل عبر البحر لهذه المجموعات.

وأضاف التقرير أن هذا الأمر قد تغير لدى شروع الجيش في حربه لاستعادة العاصمة طرابلس من مجموعات الإسلام السياسي التي لها شخصيات داعمة تتخذ من تركيا منفا لها لتلعب هذه الشخصيات دورا تآمريا أكبر ، مبينا أن الدولة التركية نفسها لم تكن تمتلك سياسة واضحة للتعامل مع ليبيا خلال الفترة التي سبقت حرب الجيش.

وتحدث التقرير عن أمثلة تؤكد عدم الوضوح هذا ومنها ما حدث في نوفمبر من العام 2018 وقبل أيام قليلة من مؤتمر السلام الذي احتضنته مدينة باليرمو الإيطالية إذ زار وزير الدفاع التركي خلوصي أكار المسؤولين في المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق في العاصمة طرابلس وقدم لهم خرائط بحرية تسلط الضوء على محاولات يونانية مزعومة للتعدي على الجرف القاري لليبيا.

وأضاف التقرير أن سلطات طرابلس تجاهلته لأنها اعتبرت من غير الوارد الدخول في أي شكل من أشكال الترتيبات البحرية تنفر اليونان وقبرص وربما الاتحاد الأوروبي بأكمله لتمثل حرب الجيش لاستعادة طرابلس في أبريل من العام 2019 صدمة نظامية غيرت آفاق الجميع.

وتكلم التقرير عن تقديم تركيا لطائراتها من دون طيار “بيرقدار تي بي 2” ومعهم العشرات من الضباط الأتراك لتشغيلها نيابة عن المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق بعد تيقن الجانب التركي من تمويل المجلس لهذه الجهود التركية ، مبينا أنه وعلى خلفية مزيج من الأسباب الفنية والسياسية توقفت مهمة تركيا السرية تماما في ليبيا لعدة أسابيع.

وأضاف التقرير أن طرابلس وقعت على مذكرة بحرية لاستئناف المهمة التركية السرية في ليبيا بعد أن أيقنت سلطات الرئاسي أن ما كانت ترفضه خلال الأشهر السابقة بات من اللازم القبول به لأن وجوده بات مهددا ، مبينا أن التوقيع على هذه المذكرة جعل أردوغان يطرح تدخله العسكري في ليبيا بشكل أكثر علنية وشمولية.

وقال التقرير أن توقف القتال في ليبيا في يونيو الماضي لم يزعج الأتراك على ما يبدو لترسيخ وجودها في شمال غرب البلاد فالتواجد التركي صار أساسيا عبر قاعدتين عسكريتين دائمتين ونحو 3 آلا من المرتزقة السوريين ، مؤكدًا أن الجانب المالي من القضية أظهر اهتمام أنقرة البالغ بخزائن طرابلس من خلال بروز ذلك جليا بالتوقيع على وثيقة لم يتم الكشف عنها مع المصرف المركيز الغني بالدولار الأميركي.

وبحسب التقرير ترى أنقرة أن بقاء المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق ضرورة لإنجاح جهود الأمم المتحدة وحملتها البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط ، مبينا أن تركيا تحاول منع التقسيم القانوني لليبيا ليبقى الأتراك رغم ما يبدونه من حد أدنى في ضبط النفس يميلون إلى القوة الصارمة والتصميم العنيد للاحتفاظ بمهمة عسكرية دائمة وهو الأمر الذي قد يضر بأهدافهم السياسية مع الأمم المتحدة وتجاه بعض التيارات الليبية المعتدلة.

ويوضح التقرير أن واحدا من الأسباب التي تجعل تركيا رافضة لتخفيض وجودها العسكري في ليبيا مرتبط بما وراء الحدود الليبية فأنقرة باحثة عن موطئ قدم لها في شمال غرب البلاد تعمل من خلاله ببطء على نيل ممر إلى منطقة الساحل وبقية قارة إفريقيا.

وأضاف التقرير أن الأهمية  القصوى للسوق الإفريقية ستبقى أولوية للأتراك فهذه السوق ستنمو خلال العقود المقبلة وهو ما يمثل فرصا لا حد لها لشركات البناء التركية والمنتوجات التركية التي يتم تصديرها وهذا ما يعني أن مغامرة تركيا في ليبيا تأتي لـ3 أسباب رئيسية.

وأشار التقرير إلى أن هذه الأسباب هي السيطرة على المياه والمصالح التجارية التركية على الأراضي الليبية لاسيما في قطاع الطاقة، فضلا عن الطموحات السياسية والتجارية في باقي دول إفريقيا ، مؤكدا أن طموحات تركيا البحرية تتطلب ظلالا إضافية لا يبدو أنها ترتبط بالمقام الأول باحتياطيات الغاز.

وأضاف التقرير أن هذه الظلال الإضافية تمثلت في طلعات مسح الغاز الأخيرة في شرق البحر الأبيض المتوسط الإيماءات العدوانية التي تضاعفت بعد وقف إطلاق النار في طرابلس، مبينا أن احتياطات الغاز ليست الدافع بل السيادة الإقليمية وغيرها من الرهانات السياسية الخالية من المكاسب الاقتصادية المباشرة.

ويمضي التقرير في التأكيد على أن مسألة فهم العقلية التركية التي ترى في ليبيا عنصرا هاما في حساباتها الجيوسياسية تتطلب وجود منظور أوسع عن كيفية رؤية الأتراك لشرق البحر الأبيض المتوسط وكسف يتناسب الوجود الليبي بشكل حاسم مع هذه الحسابات.

ووفقا للتقرير فإن العقيدة البحرية المسماة “الوطن الأزرق” هي التي ألهمت أنقرة في نوفمبر من العام 2019 لتوقيع مذكرة تفاهم مع طرابلس رغم أن توضيحها تم قبل 13 عاما من ذلك التاريخ وقبل وقت طويل من من اكتشافات الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط خلال العقد الماضي.

ويصل التقرير في خلاصته إلى أن دعم الإخوان المسلمين وعلى الرغم من كونه واقعا لا يقبل الشك على المستوى التكتيكي لم يكن هو الدافع الأساسي وراء قرار الأتراك بالذهاب إلى ليبيا لأن التواجد التركي المستمر في الخارج يخدم بطريقة شريرة قادة البلاد ويحقق لهم أهداف على المستوى المحلي.

وأضاف التقرير أن أردوغان ورفاقه لديهم حافز قوي لصرف انتباه الرأي العام التركي عن أزمة الديون بالعملة الصعبة التي خرجت عن نطاق السيطرة وأسهمت في تخفيض قيمة الليرة إلى النصف خلال عامين وهو ما ألحق ضررا بالغا بالاقتصاد وهو ما يعني أن الهزيمة الداخلية الساحقة التي تنتظرهم هي من ستقتلع من وصفعه التقرير بـ”الطاغوت التركي” من ليبيا خلال السنوات القليلة المقبلة.

ترجمة المرصد – خاص

Shares