أذربيجان – في مساء الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1995، بينما كانت شمس الخريف تتوارى خلف أفق بحر قزوين، تحولت رحلة عادية في مترو باكو إلى كابوس لا يُنسى.
كان المترو في هذا الوقت يعج كالعادة بالعائدين من العمل، تتقاذفهم هموم الحياة اليومية فيما انطلق قطار مكون من خمس عربات من محطة “أولدوز” حاملاً بين جنباته أحلاما وأماني لم تدرك أن مصيرها سيتحول إلى رماد. لم يكن أحد يعلم أن تلك الرحلة القصيرة ستتحول إلى أكبر مأساة في تاريخ مترو الأنفاق العالمي.
عندما توقف القطار فجأة بعد مائتي متر من انطلاقه، وتطاير الشرر من محرك الجر، بدأت رقصة الموت. تحول الوميض إلى لهب، واللهب إلى جحيم متحرك. انطفأت الأضواء وغُمر النفق بدخان كثيف اختلط فيه صراخ الأطفال بأنين المحتضرين.
كانت العربات التي بنيت في ستينيات القرن الماضي، مصنوعة من مواد قابلة للاشتعال، تطلق غازات سامة عند احتراقها، فتحولت إلى مصائد مميتة.
في ذلك الظلام الدامس، برزت قصص بطولية ومأساوية: سائق حاول يائسا فتح الأبواب، ركاب ساعدوا بعضهم في ظلمة حالكة، وآخرون تعلّقوا بأسلاك الكهرباء أملا في النجاة فلاقوا حتفهم. دُهِس البعض في الزحام الفوضوي، وفقد آخرون وعيهم من الدخان السام، بينما احترق غيرهم وهم عالقون في هذا الفخ المعدني.

شاهد كان طريحا وقتها في المستشفى روى: “ركض المهندس إلى مؤخرة العربة الأولى، على الأرجح لفتح الأبواب. لم يستطع فتحها، وعندما عاد، انطفأت الأنوار. ساد الذعر في العربة الأولى. كنت جالسا بالقرب من الباب، نهضتُ، وتصرفتُ بسرعة، وقلتُ لشاب قريب: اسمعني، ساعدني، لنفتح الباب. قال: هناك اسلاك مكهربة عارية، ستقتلك. قلتُ له: ما الفرق أين تموت؟”.
حتى رجال الإطفاء، الذين وصلوا إلى المكان بعد عشرين دقيقة، واجهوا جحيما لا يُطاق. لم يكن من الممكن مواجهة النيران من دون الاستعانة بأسطوانات الأكسجين في ذلك النفق الذي تحول إلى مقبرة جماعية.
حين خبت النيران أخيرا، ظهرت الصورة الكاملة للمأساة: 289 قتيلا، بينهم 28 طفلا و126 امرأة، وثلاثة رجال إنقاذ دفعوا حياتهم فيما كانوا يحاولون إنقاذ حياة الآخرين.

لم تكن هذه مجرد أرقام، بل كانت أحلاما انطفأت، وعائلات تشتت، وندوبا غائرة في قلب أذربيجان. أعلن الرئيس حيدر علييف وقتها الحداد الوطني، لكن الجروح كانت أعمق من أن تندمل بمراسم رسمية. ولا تزال الأسئلة عالقة: لماذا لم تُقطع الكهرباء فورا؟ لماذا أهملت التهوية؟ لماذا كان الإهمال بهذا الحجم؟
رغم محاكمة السائق وموظف الاستقبال، تبقى الحقيقة أن المأساة كانت نتيجة تراكم الإهمال لسنوات طويلة، ونقص التمويل، وهجرة الكفاءات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. في زمن التحولات الكبرى، ضاعت الأرواح في متاهات البيروقراطية واللامبالاة.
مترو أنفاق باكو لم يكن مجرد وسيلة نقل، بل كان رمزاً لتطور المدينة، وشاهدا على حقب تاريخية متعاقبة. بني بأيدي من حلموا بأن تزداد “لؤلؤة القوقاز” تألقا وازدهارا، لكن إهماله كشف هشاشة الأحلام أمام جبروت الواقع. ما تزال أصداء هذه المأساة تتردد في أنفاق المترو، تذكرنا بأن التقدم الحقيقي لا يقاس بالصروح فقط، بل بالحياة ذاتها التي تستحق أكبر قدر من الرعاية والحماية.
المصدر: RT

