يعزز الحوار التفاهم بين مختلف مكونات المجتمع، فهو يشمل جميع أنواع التفاوض أو التشاور بين الأطراف على القضايا ذات الاهتمام المشترك المتعلقة بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
وقد كونت الحقبة الزمنية االماضية في ليبيا تراكماً سلوكياً يقوم على إلغاء الآخرين وشطبهم، واللجوء إلى استعمال الخطابات الحماسية البعيدة عن المنطق، واتباع سياسة التخوين والتكفير وكيل الاتهامات جزافاً، وتعنيف المخالفين بشتى الوسائل، ومحاولة احتواء المثففين، في بوثقة الولاء التام للنظام القائم. وهو ما أفسد الحياة الفكرية والثقافية والسياسة للمواطن الليبي.
إن نشاهده اليوم من محاولة بعض المجموعات فرض وجهة نظرها بالقوة على شعب بأكمله، إلا دليلا ً على انعدام ثقافة الحوار عند هذه المجموعات، وهو ما أدى إلى انحراف الحراك الاجتماعي والسياسي نحو منحدر خطير يصب في مستنقع العنف بين الأطراف المتصارعة على السلطة.
فالمشكلة الحقيقة للأزمة الليبية اليوم هي ممارسة العنف السياسي بدل العمل بالحوار كأداة لحل الخلافات. أما السبب فهو انعدام ثقافة الحوار في المجتمع نتيجة عدم اقتران التعليم بالتربية وفق منهج علمي يتغدى من مراكز البحوث العلمية التربوية، والدليل هو أن الديكتاتورية تبدأ من الأسرة. حيث أن العلاقة الأسرية في الغالب تخضع لأسلوب الأوامر والطاعات، ويتحكم فيها مزاج الأفراد عند تربية الأبناء، إما عاطفة مفرطة، وإما عقاب لدرجة السادية. هذا النوع من العلاقات المضطربة نتيجة التربية المنفلتة، يعكس سلوك العنف المنتشر ـ إلى حد كبير ـ بين معظم الليبيين حتى المتعلمين منهم، وهو ما يفسر غياب مبادرات حقيقية تهدف للمصالحة. وتظل الأنانية والانتصار للذات، وتقديم المصالح الخاصة على مصلحة الوطن، هي الشكل البشع الذي يحكم العملية السياسية.
وتعد ثقافة الحوار محوراً هاماً في بناء لبنة الديمقراطية القائمة على تعددية الفكر والتنوع الثقافي والسياسي. هذه الثقافة عنوانها قدرة الإنسان على التفاعل مع الآخرين والاستماع إلى الرأي الآخر، واحترام وجهة النظر المعارضة، والهدف هو الوصول إلى القواسم المشتركة في أية قضية مطروحة للنقاش.
ومن هنا فإن الحوار ظاهرة صحية يستطيع الفرد من خلاله إرسال ما يريده من أفكار للآخرين بالحجة والبرهان، ومناقشتهم بالوسائل الإنسانية المعهودة. وقد كان الحوار وسيلة أساسية للتواصل بين الأنبياء وشعوبهم. قال تعالى: “اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى” (44).
والحوار وسيلة للعيش المشترك رغم الاختلافات الفكرية والثقافية في المجتمع الواحد، وبين المجتمعات المختلفة، وهو دليل رقي الشعوب وتقدمها، كما أنه يساعد على تكوين الإنسان المنتج المشارك في بناء الدولة بكل إخلاص فمن خلال هذه الثقافة يعلم كل مواطن بأن له شركاء في الوطن يتفاعل ويتعامل معهم بعيداً عن الإقصاء والتفرد، واستخدام وسائل القوة لفرض وجهات النظر على الآخرين، هذه الأنواع من السلوك غالباً ما تتكون عندما يحدث انسداداً سياسياً ناتجاً عن اختلاف حاد في وجهات النظر، يتغذى من عدم ممارسة الحوار، فتكون انعكاساته سلبية على حركة المجتمع فيعرقلها.
والحوار السياسي لابد أن ينطلق من أربعة مبادئ أساسية وهي: (الديمقراطية، حقوق الإنسان، الأمن، التنمية). فهذه المبادئ غالباً ما يقع فيها الخلل، والتركيز على مناقشة بعض منها دون غيرها قد يفشل الحوار، أو يجعل نتائجه أقل قيمة، مما يفقدها القدرة على حلحلة الوضع القائم الذي من أجله فُعل الحوار.
أحد الأهداف الأساسية التي يقوم عليها الحوار هي دعوة صانعي القرار للجلوس على طاولة مستديرة، يتناقشون في مختلف القضايا موضع الخلاف بين أطراف المجتمع الذي يمثلونه، فاستماعهم لبعضهم بعض يجعلهم على وعي أفضل بالتحديات على الصعيدين الوطني والإقليمي الذي يؤثر في سياسة بلادهم، ولتحقيق ذلك لابد أن تجمع طاولة الحوار ممثلين عن كل الجهات الفاعلة بالمجتمع وهي الأطراف السياسية والاجتماعية والنقابية والمثقفين والباحثين وصانعي السياسات وممثلي المنظمات الحكومية، وقادة الأحزاب السياسية و ممثلي المجتمع المدني والقطاع الخاص.
وانطلاقاً من مبدأ “لا أحد يمتلك الحقيقة كاملة”، فإننا عندما نتحاور، سوف لن نحصل إلا على جزءٍ مما نريد، هذا الجزء قد يمثل مقدار الحقيقة التي نملكها، وما نتنازل عنه فهو نصيب الطرف المقابل من الحقيقة التي لا نملكها نحن. أما أهم متطلبات الحوار فهي الهدوء وشعور جميع الأطراف المتحاورة بالأمن، فإذا امتلك أحدهم السلاح ويلوح باستخدامه في حال فشل الحوار، فإن نتائجه لن تكون ملزمة بعد انتهاء أسباب حدوثها. كذلك التكافؤ بين المحاورين من حيث المستوى العلمي والثقافي، ولهذا تحرص الجهات المتحاورة على تفويض النخبة من بينهم كي يمثلونهم.
وعليه فإن اللجوء للحوار هو الخيار المناسب للخروج من آثار وترسبات الماضي، وحصاده الحالي، وهو الدافع القوي نحو تطلعات المستقبل. وذلك لأن ثقافة الحوار هي الأساس السليم التي تبنى على قواعده الأوطان، وتؤسس به الديمقراطيات، كما أنه السبيل القويم لنشأة المواطن الصالح المحب لوطنه المشارك في رقي مجتمعه فهو يبدأ من الأسرة وتدعمه المدرسة بمناهجها، وتلح عليه وسائل الاعلام في برامجها. ولنجاح عملية الحور بين الأطراف المتحاورة، لابد من الالمام ببعض متطلباته، التي سوف نحاول عرضها في هذا المقال المتواضع تحث المحاور الآتية:
مفهوم الحوار:
الحوار وفق بعض العلماء، هو نوع من الحديث بين شخصين أو فريقين يتم فيه تداول الكلام بينهما بطريقة متكافئة فلا يستأثر به أحدهما دون الآخر ويغلب عليه الهدوء والبعد عن الخصومة والتعصب.
متطلبات ما قبل الحوار:
الاقتناع بالحوار كوسيلة للتواصل بين الناس.
الاقتناع بقيمة رأي الآخرين.
الإقرار بحق الآخرين في التعبير عن رأيهم.
فهم أساسيات التحلي بآداب الحوار.
الاقتناع بأن الحوار قد لا يحقق كل ما نريد.
أسس نجاح الحوار:
الاستعداد لتبادل الآراء والأفكار من أجل الوصول إلى أفضل البدائل الممكنة.
الاستعداد لتعديل وجهة النظر في ضوء ما يستجد من أدلة ومعلومات.
تجنب الإساءة للآخرين مهما كانت حدة الخلاف معهم.
إتاحة الفرصة للآخرين عند طرح أفكارهم دون مقاطعة.
إجادة استخدام فن السؤال في الوقت المناسب.
عدم السخرية من المخالفين وعد الاستخفاف بآرائهم.
عدم الانسياق وراء ما يشاع حتى تتوفر الأدلة والحجج الكافية.
تحري الدقة في اختيار الكلمات والعبارات التي تعبر عن الرأي.
تجنب المراوغة والتلاعب بالمصطلاحات.
ترك الحوار بكل أدب إذا جنح الطرف الآخر إلى الانفعال والغضب.
كيف نؤسس للحوار؟
- موضوع الحوار في ضوء القضايا والأحداث الآنية.
- تهيئة المشاركين في الحوار ذهنياً كأن يحدد عنوان معبر عن المضمون.
- جمع البيانات وبعض المعلومات المتصلة بالموضوع.
- تحديد المحاور الرئيسية والفرعية لموضوع الحوار.
- إعداد وسائل الإيضاح التي تساعد على التبسيط.
تنفيذ الحوار:
- التعريف بأطراف الحوار كأن يعرف كل عضو بنفسه.
- الإنصات الجيد لما يطرح في الحوار وتجنب المقاطعة.
- توزيع الكلمات بين المشاركين بحيث لا يستأثر طرف بالحديث.
- استخدام لغة مباشرة تعبر عن الموضوع دون مراوغة.
- الهدوء وعدم رفع الصوت أو الحماس الزائد.
- الحذر من تحول الحوار إلى جدل عقيم.
- تدوين الملاحظات التي تطرح، تمهيداً للرد عليها في وقتها.
معوقات الحوار:
- عدم شعور أحد الاطراف بالأمان.
- التمسك بالرأي والتعصب له وضيق الأفق.
- سوء الظن بالآخرين.
- الإحساس المسبق بعدم قيمة الحوار.
- قلة الحصيلة العلمية والثقافية للأفراد.
- الخوف والخجل من التحدث أمام الناس.
- الغرور وعدم الاعتراف بالتعددية والاختلاف.
لذلك نقول بأن الحوار هو الأساس السليم لنشأة مواطن صالح، وهو السبيل القويم لبناء الأوطان، ويبدأ من الأسرة وتدعمه المدرسة بمناهجها، وتلح عليه وسائل الاعلام في برامجها.
أتمنى من الله أن يحفظ البلاد والعباد من كل سوء
بقلم .دفرج دردور